كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالمراد من {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} [مريم: 2] يعنى هذا الذي يُتلَى عليك الآن يا محمد هو ذِكْر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي أجلُّ الرحمات بعبده زكريا.
وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخَلْق مهانة ومذلَّة، وهي كلمة بشعة لا تُقبل، أما العبودية لله تعالى فهي عِزٌّ وشرف، بل مُنتهَى العِزّ والشرف والكرامة، وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء وتُحزِن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره، أما العبودية لله تعالى فيأخذ العبد خير سيده. لكن، ما نوع الرحمة التي تجلى الله تعالى بها حين أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر عبده زكريا؟
قالوا: لأنها رحمة تتعلق بطلاقة القدرة في الكون، وطلاقة القدرة في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسبِّبات أسبابًا، ثم قال للأسباب: أنت لست فاعلة بذاتك، ولكن بإرادتي وقدرتي، فإذا أردتُك ألاَّ تفعلي أبطلْتُ عملك، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به. ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار، ولم يكن حظ الله بإطفاء النار عن إبراهيم، أو بجَعْل النار بَرْدًا وسلامًا على إبراهيم أن يُنجي إبراهيم؛ لأنه كان من الممكن ألاَّ يُمكّنَ خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه، أو يُنزِل مطرًا يُطفئ ما أوقدوه من نار، لكن ليست نكاية القوم في هذا، فلو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم، أو نزل المطر فأطفأ النار لقالوا: لو كُنَّا تمكنّا منه لفعلنا كذا وكذا، ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا.
إذن: شاءت إرادة الله أنْ تكيد هؤلاء، وأن تُظهِر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتُمكّنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلًا، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْدًا وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
وكذلك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلًا على طلاقة القدرة في مسألة الخَلْق، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه جعل للكون أسبابًا، فمَنْ أخذ بالأسباب يصل إلى المسبِّب، ولكن إياكم أنْ تُفتَنوا في الأسباب؛ لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب، وقد يُلغيها نهائيا ويأتي بالمسبِّبات دون أسباب.
وقد تجلَّتْ طلاقة القدرة في قصة بَدْء الخَلْق، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب والخالق سبحانه يُدير خلقه على كُلِّ أوجه الخَلْق، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر.
فالقدرة الإلهية إذن غير مُقيَّدة بالأسباب، وتظلّ طلاقة القدرة هذه في الخَلْق إلى أنْ تقومَ الساعة، فنرى الرجل والمرأة زوجين، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبِّب سبحانه، فهو القائل: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50]. وطلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أنْ يرزقَه الولد. قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} [مريم: 2]. أي: رحمه الله، لكن متى كانت هذه الرحمة؟ يقول الحق تبارك وتعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ}.
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}.
أي: في الوقت الذي نادى فيه ربه نداءً خفيًا. والنداء لَوْن من ألوان الأساليب الكلامية، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر، وهو أن تخبر عن شيء بكلام يحتمل الصدق أو الكذب. وإنشاء، وهو أنْ تطلب بكلامك شيئًا، والإنشاء قَوْلٌ لا يحتمل الصدق أو الكذب. والنداء من الإنشاء؛ لأنك تريد أن تنشىء شيئً من عندك، فلو قُلْت: يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالًا عليك، فالنداء إذن طلبُ الإقبال عليك، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى؟ إنك لا تنادى إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك.
فكيف تنادى ربك تبارك وتعالى وهو أقرب إليك من حبل الوريد؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم؟ فإذا كان إقباله عليك موجودًا في كل وقت، فما الغرض من النداء هنا؟ نقول: الغرض من النداء: الدعاء. ووَصْف النداء هنا بأنه: {نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] لأنه ليس كنداء الخَلْق للخَلْق، يحتاج إلى رَفْع الصوت حتى يسمع، إنه نداء لله تبارك وتعالى الذي يستوي عنده السر والجهر، وهو القائل: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الملك: 13]. ومن أدب الدعاء أنْ ندعوَه سبحانه كما أمرنا: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]. وهو سبحانه {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] أي: وما هو أَخْفى من السر؛ لأنه سبحانه قبل أن يكون سِرًّا، علم أنه سيكون سرًا.
لذلك، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي؛ لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء، إنْ سمعه غيره ربما استنقصه، فجعل الدعاء خَفيًا بين العبد وربه حتى لا يُفتضحَ أمره عند الناس.
أما الحق سبحانه فهو ستَّار يحب الستر حتى على العاصين، وكذلك ليدعو العبد رَبَّه بما يستحي أنْ يذكره أمام الناس، وليكون طليقًا في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء؛ لأنه ربُّه ووليه الذي يفزع إليه. وإنْ كان الناس سيحزنون ويتضجرون إن سألتهم أدنى شئ، فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته.
لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه؟
دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتيًا وامرأته عاقر؟ فكأن الأسباب الموجودة جميعها مُعطَّلة عنده؛ لذلك توجه إلى الله بالدعاء: يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خَرْق الناموس والقانون، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته.
أخفاه أيضا؛ لأنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده، إلاّ أنه لم يأتمنهم على منهج الله؛ لأن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج، فكيف يأمنهم على منهج الله وهم غير مؤتمنين على أنفسهم؟ فإذا دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ليرث النبوة من بعده، فسوف يغضب هؤلاء من دعاء زكريا ويعادونه؛ لذلك جاء دعاؤه خفيًا يُسِرُّه بينه وبين ربه تعالى.
سؤال آخر تنبغي الإجابة عليه هنا: لماذا يطلب زكريا الولد في هذه السن المتأخرة، وبعد أن بلغ من الكبر عتيًا، وأصبحت امرأته عاقرًا؟
لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6].
إذن: فالعِلَّة في طلب الولد دينية مَحْضة، لا يطلبه لمغْنَم دنيوي، إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد.
لذلك قوله: {يرثني} هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض؛ لأن الأنبياء لا يورثون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم. فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى؛ لذلك قال بعدها: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] أي: النبوة التي تناقلوها. فلا يستقيم هنا أبدًا أن نفهم الميراث على أنه ميراث المال أو متاع الدنيا الفاني. ومن ذلك قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] ففي أيِّ شئ ورثه؟ أورثه في تركته؟ إذن: فما موقف إخوته الباقين؟ لابد أنه ورثه في النبوة والملك، فالمسألة بعيدة كل البعد عن الميراث المادي.
ثم يقول الحق سبحانه أن زكريا عليه السلام قال: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ}.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}.
هذا هو النداء، أو الدعاء الذي دعا به زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] ويرد في الدعاء أن نقول: يا رب. أو نقول: يا الله، فقال زكريا (رب) أي: يا رب؛ لأنه يدعو بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر، إنه يطلب الولد، وهذا أمر يتعلق ببنية الحياة وصلاحها للإنجاب، وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى، وإن كانت العلقة في طلب الولد إلهية، وهي أنْ يحمل المنهج من بعد أبيه. فكأن زكريا عليه السلام دعا ربه: يا ربّ يا مَنْ تعطي مَنْ آمن بك، وتعطي مَنْ كفر، يا مَنْ تعطي مَنْ أطاع، وتعطي مَنْ عصى، حاشاك أن تمنع عطاءك عمَّن أطاعك ويدعو الناس إلى طاعتك. أما الدعاء بالله ففي أمور العبادة والتكليف.
ثم يُقدِّم زكريا عليه السلام حيثيات هذا المطلب: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] والوَهَن هو الضعف، وقال: {وَهَنَ العظم} [مريم: 4] لأن لكل شيء قوامًا في الصلابة والقوة، فمثلًا الماء له قوام معروف والدُّهْن له قوام، واللحم له قوام، والعصب والعظم وكل عناصر تكوين الإنسان، والعَظْم هو أقوى هذه الأشياء، والعَظْم في بناء الجسم البشري مثل (الشاسيه) في لغة العصر الحديث، وعلى العظم يبنى جسم الإنسان من لحم ودم وعصب، فإذا أصاب العظام وهي أقوى العناصر ضعفٌ ووهنٌ فغيرها من باب أَوْلى.
لذلك، فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال؟ قال: مرَّتْ بنا سنون صعبة: فَسنة أذابتْ الشحم أي: بعد الجوع وعدم الطعام وسنة أذهبت اللحم أي: بعد أن أنهت الشحم وسنة محَّت العظم.
فكأن العَظْم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم الإنسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام والشراب. والعظم في هذه الحالة يُوجِّه غذاءه للمخ خاصة؛ لأنه ما دام في المخ بقية قبول حياة فما حدث للجسم من تلف قابل للإصلاح والعودة إلى طبيعته، إذن: فسلامة الإنسان مرتبطة بسلامة المخ.
لذلك نجد الأطباء في الحالات الحرجة يُركِّزون اهتمامهم على سلامة المخ، ويرتبون عليه حياة الإنسان أو موته، حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية، أما إنْ توقف المخ فهذا يعني الموت. فكأن نبي الله زكريا عليه السلام يقول: يا رب ضعف عظمي، ولم يَعُدْ لديَّ إلا المصدر الأخير لاستقباء الحياة.
ولما كان العظم شيئًا باطنًا مدفونًا تحت الجلد، فهوحيثية باطنة، فأراد زكريا عليه السلام أنْ يأتيَ بحيثية أخرى ظاهرة بينة، فأتى بأمر واضح: {واشتعل الرأس شَيْبًا} [مريم: 4] فشبّه انتشار الشيب في رَأْسه باشتعال النار، فالشعر الأبيض الذي يعلوه واضح كالنار.
والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضًا تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار، فإذا ما انتهتْ هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت النار في التضاؤل، حتى تصير جَذْوة لا لَهبَ لها ثم تنطفىء.
واشتعال الرأس بالشيب أيضًا دليل على ضعف الجسم ووَهَن قُوته؛ لأن الشعر يكتسب لونه من مادة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في بُصَيْلة الشعرة، وتُمد الشعرة بهذا اللون، وضعْفُ الجسم يُضعِف هذه المادة تدريجيًا، حتى تختفي، وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء، والبياض ليس لونًا، إنما البياض عدم اللون نتيجة ضَعْف الجسم وضَعْف الغُدَد التي تفرز هذا اللون.
لذلك، نجد المترفين الذين يعنون كثيرًا بشعرهم ويضعُون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر الشيب عندهم تبيض سوالفهم؛ لأن السوالف عادة بعد أنْ يُهذِّبها الحلاق تأخذ أكبر قدر من المواد الكاوية التي تؤثر على بُصيْلات الشعر وعلى هذه المادة الملونة، والشعرة مثل الأنبوبة يسهل توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلاقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة.
ثم يقول: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] أي: لم أكُنْ فيما مضى بسبب دعائي لك شقيًا؛ لأني مُستجَابُ الدعوة عندك، فكما أكرمتني سابقًا بالإجابة فلم أكُنْ شقيًا بدعائك، بل كنتُ سعيدًا بالإجابة، فلا تُخلِف عادتك معي هذه المرة، واجعلني سعيدًا بأنْ تُجيبني، خاصة وأن طلبي منك طاعة لك، فأنا لا أريد أنْ أخرج من الدنيا إلاَّ وأنا مطمئن على مَنْ يحمل المنهج، ويقوم بهذه المهمة من بعدي.
وأنت قد تدعو الله لأمر تحبه، فإذا لم يأْتِ ما تحبه ولم تحب حزنت وكأنك شقيت بدعائك، وقد يكون شقاءَ كذب، لأنك لا تدري الحكمة من المنع وعدم الإجابة، لا تدري أن الله تعالى يتحكم في تصرفاتك. وربما دعوْت بأمر تراه الخير من وجهة نظرك وفي علم الله أنه لا خَيْرَ لك فيه، فمنعه عنك وعدَّل لك ما أخطأتَ فيه من تقدير الخير، فأعطاك ربك من حيث ترى أنه منعك، وأحسن إليك من حيث ترى أنه حرمك، لأنك طلبتَ الخير من حيث تعلم أنت أنه خير ومنع الله من حيث يعلم أن الخير ليس في ذلك.
ثم يذكر زكريا عليه السلام عِلَّة أخرى هي علة العِلَل ولُبّ هذه المسألة، فيقول: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي}.
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)}.
(الموَالِي) من الولاء، وهم أقاربه من أبناء عمومته، فهم الجيل الثاني الذي سيأتي بعده، ويخاف أنْ يحملوا المنهج ودين الله من بعده؛ لأنه رأى من سلوكياتهم في الحياة عدم أهليتهم لحمْل هذه المهمة.
{مِن وَرَآئِي} [مريم: 5] سبق أن أوضحنا في سورة (الكهف) أن كلمة وراء تأتي بمعنى: خلف، أو أمام، أو بعد، أو غير. وهنا جاءت بمعنى: من بعدي.
ثم يقول: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} [مريم: 5] والعاقر هي التي لا تلد بطبيعتها بداية، أو صارت عاقرًا بسبب بلوغها سِنَّ اليأس مثلًا. ونحن نعلم أن التكاثر والإنجاب في الجنس البشري ينشأ من رجل وامرأة، وقد سبق أنْ وصفَ زكريا حاله من الضعف والكبر، ثم يخبر عن زوجته بأنها عاقرٌ لا تلد، إذن: فأسباب الإنجاب جميعها مُعطلَّة.
وقوله: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} [مريم: 5] أي: هي بطبيعتها عاقر، وهذا أمر مصاحب لها ليس طارئًا عليها، فلم يسبق لها الإنجاب قبل ذلك.
ثم يقول: {فَهَبْ لِي} [مريم: 5] والهِبَة هي العطاء بلا مقابل، فالأسباب هنا مُعطَّلة، والمقدمات تقول: لا يوجد إنجاب؛ لذلك لم يقُلْ مثلًا: أعطني؛ لأن العطاء قد يكون عن مقابل، أما في هذه الحالة فالعطاء بلا مقابل وبلا مقدمات، فكأنه قال: يارب إنْ كنتَ ستعطيني الولد فهو هِبَة منك لا أملك أسبابها؛ لذلك قال في آية أخرى عن إبراهيم عليه السلام: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
ولنا وَقْفة ومَلْحظ في قوله تعالى: {عَلَى الكبر} [إبراهيم: 39] حيث قال المفسرون: (على) هنا بمعنى (مع) و(على) ثلاثة أحرف و(مع) حرفان، فلماذا عدل الحق تبارك وتعالى عن الخفيف إلى الثقيل؟ لابد أن وراء هذه اللفظ إضافةً جديدة، وهي أن (مع) تفيد المعية فقط، أما (على) فتفيد المعية والاستعلاء، فكأنه قال: إن الكِبَر يا رب يقتضي ألاَّ يوجد الولد، لكن طلاقة قدرتك أعلى من الكِبَر. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] كأن الظلم يقتضي أن يُعاقبوا، لكن رحمة الله بهم ومغفرته لهم عَلَتْ على استحقاق العقاب.
وقوله: {مِن لَّدُنْكَ} [مريم: 5] أي: من عندك أنت لا بالأسباب (وَلِيًا) أي: ولدًا صالحًا يليني في حَمْل أمانة تبليغ منهجك إلى الناس لِتسْلَم لهم حركة الحياة.
ثم يقول: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} سبق أن أوضحنا أن الميراث هنا لا يُراد به ميراث المال؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وما تركوه من مال فهو صدقة من بعدهم، إنما المراد هنا ميراث العلم والنبوة والملْك، وحَمْل منهج الله إلى الناس، ونلحظ أنه لم يكتَفِ بقوله {يَرِثُنِي} بل قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فلستُ أنا القمة في الطاعة في آل يعقوب، فهناك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وهذا تواضع منه ومراعاة لأقدار الرجال وإنزالهم منازلهم.
وقوله: {واجعله رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6] أي: مرضيًا عنه منك. اهـ.